فصل: مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب أن الجمع ما فوق الاثنين، وأحكام داود وسليمان، والبساط وسيره وما يتعلق بذلك:

في هذا الجمع دليل المناطقة القائلين أقل الجمع اثنان وعليه اللغات الأجنبية كلها إذ ليس عندهم تثنية بين الجمع والمفرد وعليه قوله تعالى: {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} الآية 11 من سورة النساء، والمراد أخوان، وقرىء لحكمهما قراءة شاذة، وقيل إن الحكم كما يضاف إلى الحاكم يضاف إلى المتحاكمين فيكون معهما جمعا، تأمل وراجع الآية 116 من الصافات المارة.
وخلاصة هذه القصة:
قالوا دخل على داود عليه السلام رجلان، قال أحدهما إن غنم هذا قد دخلت في زرعي ليلا فلم تبق منه شيئا، واعترف الآخر بذلك، فحكم عليه السلام بالغنم كلها لرب الزرع، فلما خرجا قال لهما سليمان: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه بالحكم، فقال غير هذا أوفق وأرفق، فعادا فأخبرا داود، فدعاه وقال له بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أولى بهما وأحسن، قال له ادفع لصاحب الحرث، الغنم فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، وأمر صاحبها يزرع لصاحب الحرث مثل حرثه حتى إذا صار كهيئة يوم أكل دفع إلى صاحبه واستعاد صاحب الغنم غنمه، وبهذه الصورة يرتفع الضرر عن الطرفين، ويعود كل لماله كما كان، فقال داود عليه السلام الأمر هو ما قضبت وحكم به، وكان عمر سليمان إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ومن ذلك اليوم يقال: الرجوع إلى الحق فضيلة، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل، والخطأ في البراءة خير من الخطأ بالحكم.
والحكم الشرعي في هذا هو أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير نهارا فلا ضمان على ربّها لأن أصحاب الزرع مكلفون يحفظ زرعهم نهارا من المواشي التي تسرح فيه، وإن كان ليلا فعليه الضمان لأن أهل المواشي مكلفون يحفظها ليلا في مراحها لئلا تتسرب إلى مال الغير فتتلفه حال غفلة أهله، يدل على هذا ما رواه حرام بن سعيد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا بستانا لرجل من الأنصار فأفسدت فيه، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل- أخرجه أبو داود مرسلا- وما روى الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار ولم يقيده بليل ولا نهار» وقد أخذ أبو حنيفة بهذا ولم يقض بالضمان أصلا، وأخذ الشافعي بالحديث المشار إليه على التفصيل الذي فيه، وكان حكم داود عليه السلام وابنه بالاجتهاد، ولأنه لو كان بالنص لما جاز لسليمان الاعتراض عليه، ولا لداود الرجوع عنه، وان اللّه تعالى حمد هذا لصوابه، وأثنى على الآخر باجتهاده.
قال الحسن: لولا هذه الآيات لهلك الحكام.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال صلى الله عليه وسلم «إذا حكم الحاكم باجتهاده فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر».
وهناك من قال إن حكمهما كان بالنص، إلا أن الآخر نسخ الأول وفيه ما فيه فضلا عن أنه يوجب عدم جواز الاجتهاد للأنبياء، لأن سليمان لم يتنبأ بعد لينزل عليه شرع، يدل عليه قوله تعالى {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} أي قضية الحكم بطريق الإلهام، وإنما ركن داود لحكم سليمان، لأنه رآه موافقا وأرفق من حكمه بحق الطرفين، ولأنه علم حذاقته قبل هذه، وذلك على ما قالوا إن امرأة تبتّلت واستغرقت أوقاتها بالعبادة، وكان لها جاريتان جميلتان، قالت إحداهما للأخرى قد طال علينا البلاء، لأن هذه لا تريد الرجال، وإننا بشر فلو فضحناها لرجمت وخلصنا منها، فصرنا إلى الرجال من بعدها، فأخذنا ماء أبيض ونضحتاه على سوءتها وهي تصلي، وخرجنا إلى داود عليه السلام فقالتا له إنها قد بغت، وكان حد الزنى عنده الرجم، فرفعت إلى داود والماء لأبيض في ثيابها، فسألها فأنكرت، وسألها عن الماء، فقالت لا أدري لعله ماء أبيض أو شيء مفتعل، فأراد رجمها، فقال سليمان ائتوني بنار، فإنه إن كان ماء أبيض اجتمع، وإن كان ماء الرجل تفرق، فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الحد، وهذا من ذكانه عليه السلام وحدة فطنته.
ولهذا البحث صلة بعد الآية الآتية.
قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} يسبحن أيضا ويسرن معه حيث سار وهذا هو تسخيرها {وَكُنَّا فاعِلِينَ} 79 أمثال هذه المعجزات لأنبيائنا ومن شأننا أن نفعل أكثر من ذلك فليس ببدع منا وإن كان بديعا وعجيبا عندكم أيها الناس {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} دروع من حديد بدليل قوله: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} من أن ينالكم سلاح عدوكم في الحرب {فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ} 80 يا آل داود، وهذا استفهام بمعنى الأمر، أي أديموا الشكر للّه على ذلك. واللبوس لغة كل ما يلبس، قال ابن السكّيت:
البس لكل حالة لبوسها ** اما نعيمها واما بوسها

{وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ} سخرناها {عاصِفَةً} شديدة الهبوب ولا يرد هنا ما جاء في قوله {رخاء} في الآية 37 من سورة ص والآية 12 من سورة سبأ المارة لم يذكر فيها الأمران بل ذكر مدة سيرها حين تحمل البساط على الريح اللينة.
أما العاصفة فتقطع أكثر مما ذكر هناك، وبما أن اللّه تعالى سخرها له فتكون على رأيه إن شاء رخاء لينة وإن شاء شديدة عاصفة تقطع السنة بساعة وأقل.
راجع كيفية جلب عرش بلقيس في الآية 38 من سورة النمل، فالريح بالنسبة لسيدنا سليمان كالفرس إن شاء أطلقها فغارت وإن شاء أمسكها فسارت، فإذا أراد أن تشتد اشتدت وإذا أراد أن تلين لانت، يدل عليه قوله تعالى {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الأرض الَّتِي بارَكْنا فِيها} بالأشجار والأنهار والثمار واعتدال الهواء فضلا عن أنها مهبط الأنبياء ومثواهم {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ} 81 لأن هذه الأشياء وغيرها تجري بمقتضى حكمتنا وتدبيرنا {وَمِنَ الشَّياطِينِ} سخرنا له {مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} في البحار لاستخراج الدراري {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ} الغوص، من البناء الرفيع، والتصوير الجميل، وعمل القدور والجفان العظيمة، والقوارير والصابون وغيرها مما عرف ذلك الزمن وما لم يعرف، {وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ} 82 فلا يزيغون عن أمره ولا يفسدون في الأرض ولا يبدلون ما أمروا به فلا يخالفونه بشيء ما.
قالوا نسجت الشياطين لسليمان بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع له منبر من ذهب وسطه فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد عليها الأنبياء والعلماء وحولهم الوجهاء والأمراء، وحولهم عامة الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلّهم الطير بأجنحتها، وترفع الصبا البساط مسيرة شهر صباحا ومثلها مساء، وذلك بمدة ساعة أو ساعة ونصف على الاختلاف في تقدير الفرسخ، لأن الغدو من مطلع الفجر إلى طلوع الشمس، والرواح مثله من اصفرار الشمس إلى غروبها راجع الآية 12 من سورة سبأ المارة.
قالوا وكان يسير في الريح الليّنة إلى العراق فيقيل ببلخ وتخلّل بلاد الترك وجاوزها إلى الصين، ثم إلى قرب مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى إلى السند وجاورها إلى مكران وكرمان في أرض فارس، وغدا منها فقال في بكسكى، ثم راح إلى الشام، وكان مستقره تدمر، وفي ذلك قال النّابغة:
ألا سليمان إذ قال المليك له ** قم في البرية فاصددها عن النفد

وجيّش الجن إني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

قالوا وسبب إعطائه البساط هو غضبه على الخيل التي ألهته عن الصلاة وعقره لها عقوبة لنفسه بحرمانها منها وعقوبة لها لتسببها لفوات صلاة العصر، وكان في شريعته جواز عقوبة المتسبب، فأبدله اللّه تعالى خيرا منها وهو البساط، قالوا وكان عليه السلام يحب الغزو فلا يمر بناحية إلا غزاها، وأذل أهلها وملكها، وكان يمر ببساطه وعظمته على المزرعة فما يحركها ولا يثير ترابها ولا يؤذي طائرا، راجع الآية 15 فما بعدها من سورة النمل، والآية 10 فما بعدها من سورة سبأ المارة، وفي هذا وذاك يبيّن أن وجود الجن وإعمارهم الأرض ثابت بالنص فلا يجوز إنكار وجودهم بوجه من الوجوه، لأنه كفر صريح لمخالفته القرآن، وعدم رؤيتنا لهم في الدنيا يقابله عدم رؤيتهم لنا في الآخرة، راجع الآية 27 من الأعراف وبقية قصة عظمة ملك سليمان مفصلة هناك، وفي أحكام سليمان عليه السلام ما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول «كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك. فتحاكما إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان فاخبرتاه، فقال ائتوني بسكين أسقه بينكما، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك اللّه هو ابنها، فقضى به للصغرى» وهذا مما يدل على أن حكمه بالاجتهاد لا بالنص بالقصتين المذكورتين.
ونقلوا عنه قصصا أخرى لم نثبتها لعدم التثبت من صحتها، وهناك قصة رابعة نقلها صاحب الإبريز وهي أن امرأة شهد عليها رجلان بأنها مكنت الكلب من وطئها فحكم برجمها، وأن سليمان عليه السلام استشهد الرجلين على الانفراد فاختلف شهادتهما فدرأ عنها الحد، ومن ذلك اليوم استحب استشهاد الشهود مفردين وهو الصواب.
ومن هنا يعلم أن تمكين الكلاب من النساء قديم، لم تبتدعه بعض عواهر زماننا، وأن آية التبرّج الآتية من سورة الأحزاب 32 تشير إلى أن كل ما أحدثه أهل هذا القرن من الخلاعة قديم أيضا، وهذا من معجزات {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ} الآية 18 من سورة الأنعام المارة، وليعلم أن أحكام داود عليه السلام في هذه القصص الأربع على فرض صحة الثلاث، لأن الأولى ذكرها اللّه تعالى فلا قول فيها وكلها موافقة لظاهر الشرع وأحكام سليمان كذلك، وإنما جوزها بحكمه، لأن قضية الحرث صارت كالصلح بينهما لرضائهما بحكمه فيها، وقضية الزنى قبيل ظهور كذب الشهادة إذ يقتضي الحكم بمثلها، أما قضية الولد فإنما قضى بها داود للكبيرة لعدم وجود بينة لدى الصغيرة، وكان الولد بيد الكبيرة فحكم باعتبارها ذات اليد والصغيرة خارجة والحكم الشرعي أن البينة على الخارج والقول لذي اليد كما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وكان عمل سليمان من قبيل الاختبار، لأنه لما رأى الكبيرة وافقت على قسمه شقين عرف أن لا شفقة لها عليه، فلو كان ابنها لما رضيت بموته، ولو أن الصغيرة وافقت على قسمه لما حكم لها به ولأبقاه لدى الكبيرة باعتبار يدها عليه، ولهذا حكم به للصغيرة حكم موافق للواقع مصدره الحذق والفطنة والاجتهاد، تأمل.
قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} قائلا ذذرب {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 83 والضر كلمة جامعة لأنواع الشر أنظر رعاك اللّه ما أبدع هذا الدعاء إذ ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغايتها، ولم يصرح بمطلوبه عليه السلام أدبا مع ربه وحياء منه وإيذانا بأن ربه عالم بمراده من دعائه، ولا شك أن الأنبياء موفقون، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ} الذين فقدهم {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ} 84 ليتأسوا به ويعبروا مثله فيثابوا كثوابه ويعتبروا بطلبه ويتفكروا بعطاء اللّه له زيادة عما خطر بباله.

.مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام:

ونظير هذه الآية الآية 42 من سورة ص وخلاصة هذه القصة قالوا إن أيوب ابن اموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم وامه من ولد لوط بن هاران الأصغر أخي إبراهيم عليه السلام.
وكان تنبأ وبسطت له الدنيا في أرض البلقاء، من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها، وكان عنده من أصناف النعم والعبيد ما لم يكن لأحد في عصره، وأعطاه اللّه مع هذا أهلا وأولادا ذكورا ونساء، وكان برا تقيا لربه رحيما بالمساكين والأيتام والأرامل، مكرما للضيفان مبلغا أبناء السبيل بلادهم وهذا مما يوافق شريعتنا راجع الآية 60 من سورة التوبة ومن هنا وجب على الأغنياء إعطاء أبناء السبيل من الزكاة ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء فيها وعلى الحكومة أيضا أن تعطيهم من بيت المال ما يؤمن وصولهم، وكان شاكرا لأنعم اللّه مؤديا حقوقه وقد آمن به ثلاثة فقط وكان لهم مال أيضا فحده إبليس على ذلك وصار يخاطب ربه فيقول يا رب لو ابتليت أيوب بنزع ما أعطيته لخرج عن طاعتك، فقال إني قد سلطتك على ماله قالوا وكان إبليس لا يحجب عليه شيء في السموات، ولَكِنه بعد رفع عيسى عليه السلام حجب من أربع منها وفي مبعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب عن الكل إلا في استراق السمع، وكان يسمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، ولذلك حسده فجمع خيله ورجله ونفخوا على الإبل فأحرقوها ورعاتها، فذهب وقال يا أيوب أتت نار فأحرقت إبلك ورعاتها، فقال إنها مال اللّه أعارنيها ثم نزعها مني وله الحمد، عريانا خرجت من بطن أمي وأحشر إلى اللّه كذلك، ثم أكثر عليه من الكلام حتى قال له يقول الناس لو كان إلهك يقدر لمنع ذلك، فلم يرد عليه، فرجع خاسئا ثم فعل بالغنم ورعاتها كذلك، وجاء إليه فقال ما قال أولا ورد عليه كما رد عليه أيضا فرجع خائبا ثم فعل بالزرع والأشجار كذلك، وأخبره فكان ما كان أولا وهكذا حتى لم يبق عنده شيء من المال ولم يره تأثر من شيء أصلا، فقال إبليس يا رب ان أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطني على ولده؟ فقال قد سلطتك، فانقض عدو اللّه حتى أتى ولده جميعا وهم في قصرهم فزلزله فيهم، فتلفوا عن آخرهم، ثم ذهب إلى أيوب عليه السلام بصورة معلمهم، لأنه كان عليه اللعنة كلما فعل شيئا يذهب إلى أيوب بصفة الرجل الذي يناسب ذلك الفعل، ففي تلف الإبل والغنم ذهب بصورة راعيها، وفي تلف الأشجار والزروع والثمار بصورة ساقيها، وهكذا، فقال يا أيوب وهو يبكي ليحرك حزنه لو رأيت كيف نكسوا على رءوسهم وسالت دماؤهم وتقطعت أمعاؤهم لتقطع قلبك ألما عليهم، فقال من هم؟ قال كل أولادك وأخبره خبرهم، وقال قد شقت بطونهم وكسرت رءوسهم وتناثرت أدمغتهم، وكذا وكذا، ولم يزل يصفهم ويقول له بتحرق وتأسف إلى أن رأى التأثر بدا بوجهه عليه السلام طفق يصف له مزاياهم ويعظم فظاعة ما حل بهم حتى رق قلبه عليه السلام، فاغتنم إبليس لعنه اللّه هذه الفرصة وذهب يعرض لربه جزعه، فتنبه أيوب واستغفر ربه حالا وصعدت توبته قبل أن يبثّ إبليس ما عنده، فخسىء إبليس وذل، ولما رأى ذلك قال يا رب إنما هان عليه المال والولد ما متعته بنفسه فإنك تعبد له ما فقده من مال وولد ونشب فهل أنت مسلطني على جسده، فسلطه اللّه على جسده عدا لسانه وقلبه وعقله، فانقض زاعما أنه فاز ببغيته، فأتى إليه مسرعا ونفخ في منخريه فاعتراه مرض في جميع جسده ما بين العظم والجلد استدام معه سبع سنين وبضعة أشهر وهو صابر لا يشكو، وتفرقت عنه الناس، وجاء أصحابه المؤمنون وأشاروا عليه بأن يدعو ربه بكشف ضره فأعرض عنهم وأنبهم على ما رأى من ضجرهم، وقال إن اللّه تعالى عافانا سنين كثيرة ومتعنا بكل نعمه الحاضرة، أفلا نصبر على بلائه بمقدار معافاته على الأقل وأطال عليهم الكلام بخطبة بليغة مؤثرة حتى انفضوا عنه، ولم يبق ممن يراجعه إلا زوجته رحمة بنت افرائيم بن يوسف عليه السلام، وصارت تأتيه بطعامه وشرابه، فلما رأى اللعين خيبة سعيه ومداومة أيوب على ذكر اللّه تعالى وحمده وشكره صرخ صرخ فاجتمعت إليه الشياطين من كل جانب وقالوا له ما دهاك قال أعياني هذا الرجل، وحكى لهم قصته معه، فقالوا له هل أتيته من المكان الذي جئت به آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال أصبتم، فذهب إلى زوجته وقال لها أين بعلك ذلك الذي كنت ترين، أين أولادك الذين كنت تباهين، أين مالك الذي كنت تفاخرين؟ قد ذهب عنك كل ذلك وتباعدت عنكم أصدقاؤكم وأنفسكم الناس، فانظري لحالك أين جمالك، أين زخارفك، أين قصورك أين أين؟ فلم يزل يعدد لها ويذكرها عزها الذي كانت فيه حتى صاحت صيحة أظهرت فيها جزعها وضجرها، وقالت له ما العمل؟ قال خذي هذه السخلة وقولي لزوجك يذبحها لي وهو يبرأ مما فيه وتخلصين من هذا الحال ويعود إليك جمالك وعزك وما ذهب منك، فاستمالها الملعون بذلك وأذعنت لقوله ظانة أنه ناصح لها وأنه يرجع لها ما ذكر، فأخذت السخلة منه وذكرت لأيوب ما وقع لها وكلفته أن يذبحها لإبليس لأنه هو الذي نفخ فيك فأصابك ما أصابك، قال لها ويلك أغراك عدو اللّه أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والجمال والعز والصحة، أليست هي من اللّه؟ قالت نعم، قال كم متعنا به، قالت ثمانون سنة، فقال لها كم لك في البلاء، قالت سبع سنين وأشهر، قال لها ويلك ما أنصفت ربك، ألا صبرت على البلاء ثمانين كما كنت في الرخاء والنعم، واللّه لئن شفاني اللّه لأجلدنك مئة جلدة، تأمريني أذبح لعدو اللّه اذهبي، طعامك وشرابك عليّ حرام، فذهبت تبكي، وبقي أيوب صابرا ما شاء اللّه أن يصبر بلا زاد ولا ماء ولا صديق ولا أحد، فخرّ ساجدا للّه تعالى، وقال: {ربّ إني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وبين عليه السلام في دعائه هذا افتقاره إلى ربه فقط إذ لم يقل ارحمني، وإن أكثر أسئلة الأنبياء ربهم على سبيل التعريض لا على طريق الطلب، لأن حياءهم منه يحول دون طلبهم، قال المتنبي في هذا المعنى:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ** سكوتي بيان عندها وخطاب

وذلك أن الأنبياء عليهم السلام تحققوا أن كل شيء كان أو يكون مسبوق بالإرادة، والإرادة مسبوقة بالعلم، والعلم تابع المعلوم فيتعلق به على ما هو عليه، في ثبوته غير المجهول مما يقتضيه استعداده الأزلي، ثم بعد أن خلق الخلق على حسب ذلك كلفهم استخراج سرّ ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي، ولذلك أرسل الرسل إليهم مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي فيهم فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بيّنة، ولئلا يكون للناس على اللّه حجة، فلا يتوجه عليه اعتراض بخلق الكافر، وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر بكفره، إذ إنه من توابع استعداده في ثبوته غير المجهول، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {وما ظَلَمْناهُمْ} الآية 102 من سورة هود المارة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من وجد خيرا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
وقد أشار الشافعي رحمة اللّه إلى بعض هذا في قوله:
خلقت العباد على ما علمت ** ففي العلم يجري الفتى والمسن